ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله :( وإذ غدوت من أهلك ( ( آل عمران : ١٢١ ) قاله القرطبي في أول السورة، وفي تفسير قوله :( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ( ( آل عمران : ٧٩ ) الآية. وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إنّنا بينا إمكان تقارن نزول سور عدّة في مدة واحدة، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا، مراداً منه أنّ المعدودة نازلة بعد أخرى أنّها ابْتدىء نزولها بعد انتهاء الأخرى، بل المراد أنّها ابتُدىءَ نزولها بعد ابتداءِ نزول التي سبقتها.
وقد عدت هذه السورة الثامِنة والأربعين في عداد نزول سور القرآن.
وعدد آيها مائتان في عَدّ الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون.
واشتملت هذه السورة، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد ( - ﷺ - ) وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقّيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنّه لا يعدِلُه دين، وأنّه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنّهما أنزلا قبل القرآن، تمهيداً لهذا الدين فلا يحقّ للناس، أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلاهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتّخذوا آلهة من دون الله : مَن جعلوا له شركاء، أو اتّخذوا له أبناء، وتَهديد المشركين بأنّ أمرهم إلى زوال، وألاّ يغرّهم ما هم فيه من البذخ، وأنّ ما أعدّ للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنّه مخلوق لله، وذكر الذين آمنوا به حقاً. وإبطال إلاهية عيسى، ومن ثَمّ أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجّة أهل الكتابين في حقيقة الحنيفية وأنّهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلّهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأنّ الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجّه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائِهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكَّر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتّحاد والوفاق، وذكَّرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهوّن عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكَّرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلاً لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقّي الشدائد، والبلاء، وأذى العدوِّ، ووعدهم على ذلك بالنَّصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوّهم، ثم ذكّرهم بيوم أحُد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوّه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين