كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع. ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول اللّه - ﷺ - وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون : ودع محمدا ربه! فأنزل اللّه تعالى هذه السورة..
والوحي ولقاء جبريل والاتصال باللّه، كانت هي زاد الرسول - ﷺ - في مشقة الطريق.
وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب. وكان - ﷺ - يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة. ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهدى من طغاة المشركين. فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده. بلا زاد. وبلا ري. وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود. وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه..
عندئذ نزلت هذه السورة. نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين..«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى »..
وما تركك ربك من قبل أبدا، وما قلاك من قبل قط، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه..
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ؟»..
ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مسّ هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا. لا.. «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ».. وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا.. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ».. وهناك ما هو أكثر وأوفى :«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى »! (١)
مقاصد السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد :
(١) أن اللّه ما قلا رسوله ولا تركه.
(٢) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(٣) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(٤) طلب الشكر منه على هذه النعم. (٢)
================

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٦ / ٣٩٢٥)
(٢) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٣٠ / ١٨٨)


الصفحة التالية
Icon