وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب، وإلى الشام في الشمال. وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء، والثانية إلى الشام في الصيف.
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول، في أمان وسلام وطمأنينة. وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين، فصارتا لهم عادة وإلفا! هذه هي المنة التي يذكرهم اللّه بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل اللّه. ومنة أمنهم الخوف. سواء في عقر دارهم بجوار بيت اللّه، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها اللّه وحرسها من كل اعتداء.
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير اللّه معه وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين..
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ»..
وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا، فأطعمهم اللّه وأشبعهم من هذا الجوع «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»..
وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف! وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس. ويثير الخجل في القلوب. وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها. وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده. وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة. إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته!
لم يواجهه بصنم ولا وثن، ولم يقل له.. إن الآلهة ستحمي بيتها. إنما قال له :«أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه»..


الصفحة التالية
Icon