(و رواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص)..
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة. قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوم (أي تنتظر) بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح اللّه عليه مكة دخلوا في دين اللّه أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام وللّه الحمد والمنة، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول اللّه - ﷺ - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي... «الحديث»..
فهذه الرواية هي التي تنفق مع ظاهر النص في السورة :«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...» إلخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك، مع توجيه النبي - ﷺ - إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة.
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها..
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم. فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول اللّه عز وجل :«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس؟ «فقلت لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول اللّه - ﷺ - أعلمه له. قال :«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» فذلك علامة أجلك «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً». فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول (تفرد به البخاري).
فلا يمتنع أن يكون الرسول - ﷺ - حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل، وأنه سيلقى ربه قريبا. فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول اللّه - ﷺ - أعلمه له.. إلخ..
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت :«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ».. دعا رسول اللّه - ﷺ - فاطمة وقال :«إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت. ثم ضحكت. وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم قال :«اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت.
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة. فكأنها نزلت والعلامة حاضرة. أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق. فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول اللّه - ﷺ - أنه أجله..