عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم - والسورة التي هي فيها - جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة : ٢٤] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه : وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران : ١٣٣] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : ١٣٠، ٢٢٠] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة : ٤] وختمت آل عمران بقوله تعالى : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران : ١٩٩] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة : ٢٤٥، الحديد : ١١] الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران : ١٨١] وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة : ١٢٩] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران : ١٦٤] الآية إلى غير ذلك. (١)
مدى صلتها بسورة البقرة :
هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين : البقرة وآل عمران، وهي ما يأتي :
١ - موقف الناس من القرآن : بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه، ففي البقرة : ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به، وفي آل عمران : ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، قائلين : كلّ من عند ربّنا.
٢ - عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى : ففي البقرة تذكير بخلق آدم، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد.
٣ - محاجّة أهل الكتاب : في السورة الأولى : إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود، وفي الثانية : إيجاز في محاجّة النصارى، لتأخرهم في الوجود عن اليهود.

(١) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (٢ / ٧١)


الصفحة التالية
Icon