إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته. الكون كتاب اللّه المنظور. والقرآن كتاب اللّه المقروء. وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع كما أن كليهما كائن ليعمل.. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه. الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها، والقمر والأرض، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني..
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية، وما يزال هو هو. فالإنسان ما يزال هو هو كذلك. ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب اللّه لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم اللّه به. خطاب لا يتغير، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات.. والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا، بما أنه خطاب اللّه الأخير وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم «رجعي؟» يحسن أن يستبدل به نجم جديد «تقدمي!» أو أن هذا «الإنسان» مخلوق قديم «رجعي» يحسن أن يستبدل به كائن آخر «تقدمي» لعمارة هذه الأرض!!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن. خطاب اللّه الأخير للإنسان.
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد «غزوة بدر» - في السنة الثانية من الهجرة - إلى ما بعد «غزوة أحد» في السنة الثالثة. وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية. وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة، وتفاعله معها في شتى الجوانب.
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة. مع استبطان السرائر والضمائر، وما يدب فيها من الخواطر، وما يشتجر فيها من المشاعر، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها. ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي -


الصفحة التالية
Icon