فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة. وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها.
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه. وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب.
وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود.
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بين العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها.. وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها، ويتحفزون من حولها، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل. وفي أولها زعزعة العقيدة!
وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها.. إنهم هم هم : الملحدون المنكرون، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية!!!
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك والأهداف هي الأهداف. ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة، ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى. وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ويخدع نفسه أو يخدع الأمة، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم! ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة، ممثلا في أمثال هذه النصوص :
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ...»..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ؟»..
« يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ... ؟»..