وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات.. إنما هو إلى جانب هذا وذلك، وقبل هذا وذلك. نظام يحكم، ومنهج يتحكم، وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين، ومنهج معين، وقيادة معينة. وبغير هذا كله لا يكون إيمان، ولا يكون إسلام، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام.
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة. كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير:
١ - يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع - شأنها شأن الشعائر التعبدية - مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير، مستندة إلى معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا. فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات. إنما هي مقتضى الإيمان باللّه والاعتراف بألوهيته، وإفراده بالألوهية، والتلقي من القيادة التي يحددها.. ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة، وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة :
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية، وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم، وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة.. تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة :«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ».. وتنتهي إلى تقواه، وتحذيرهم من رقابته :«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»..
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى، وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير باللّه وحسابه :«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً»..
وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من اللّه :«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ...» «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ».. وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب :«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ»..
وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات :«وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً».. «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ..».. «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».. «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً»..
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً».. تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين.. إلخ وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات باللّه، وتستمد من شريعته، وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع.


الصفحة التالية
Icon