وفي سورة "النجم"٤ تصوير دقيق لحقيقة الوحي وطريقة تلقيه، وحقيقة ملك الوحي وأسلوب نزوله، وتهكم بعباد الأوثان وسخرية بأصنامهم وتصحيح لعقائد العرب في الملائكة، وإيماءة إلى حكمة الله من خلق الكون، والتفاتة إلى اتفاق الرسالات جميعا على أصول العقائد، وقواعد المسئولية والجزاء، وإنذار للعابثين الضاحكين بقرب مصرعهم كما لقي مصرعه من قبل كل جبار عنيد.
أقسم الله بالنجم حين يهوي عبد تلألئه، ويتدلى بعد أن كان في كبد السماء قصيا، على أن محمدا مبلغ عن ربه، مهتد لم يضل، رشيد لم يعرف طريق الغواية، بل صاحبه قومه المخاطبون بهذا الوحي عمرا من قبله فما عرفوا عليه من سوء ولا جربوا عليه كذبا، فالوحي الذي ينزل عليه لا مراء فيه، والملك الذي يحمله إليه شديد القوى عظيم الخلق، يسد الأفق بمنظره المهيب١، وقد تيسر لهذا النبي الأمي أن يلتقي به، ويراه على صورته الحقيقية مرتين: إحداهما في بدء الوحي حين التصق به وقرأ عليه القرآن، وكانت رؤية يقينية قريبة استوثق منها القلب والبصر، والأخرى ليلة الإسراء والمعراج حين رحل معه رحلة واقعية رأى خلالها آيات ربه الكبرى وبلغ سدرة المنتهى٢ التي ينتهي إليها المطاف، وينتهي إليها علم الأولين والآخرين، فإذا هي أقرب درجة إلى الفردوس جنة المتقين التي تأوي إليها أرواح الصديقين والملائكة والمقربين١. فمن ذا الذي يماري محمدا فيما رآه، وما طغى بصره ولا زاغت عيناه؟
ولئن كان الوحي حقيقة مشهودة مرئية فإن عبادة العرب للات والعزى ومناة وسائر أصنامهم الأخرى أوهام وأساطير، وحين زعموا أن هذه الأصنام ملائكة وأن الملائكة بنات الله، لم يركنوا إلا للظن والهوى، ولم يعرفوا سوى الجور في القسمة، فإنهم يكرهون البنات، وقد نسبوا إلى الله ما يكرهون، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثًا!.
ولكن هذه الأسماء التي يخلعونها على أصنامهم تارة، وعلى الملائكة تارة أخرى، ليس وراءها مدلول، ولا يؤيدها منطق ولا سلطان، فما أجدر النبي أن يعرض عن أولئك الجاهلين ويهمل شأنهم موجها وجهه للذي فطر السموات والأرض ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وإن مفهوم المسئولية والجزاء لقديم راسخ الجذور منذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكلهم متفقون على أصول العقائد، وكلهم يدعون الناس إلى تحمل تبعاتهم بأنفسهم، ثم إلى الله منتهى كل شيء، ومرجع كل نفس لتدافع عن نفسها، ولقد نطقت بهذا كله صحف إبراهيم وموسى، مثلما نطقت بقدرة الله على الجمع بين النقيضين في نشأة الإنسان وحياته وموته وبعثه ونشوره، فقد خلق الله في الإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء، وقد جهزه للموت بعد أن أعده للحياة، وجعل في الإفراز المنوي المراق خصائص الذكر أو خصائص الأنثى، أفليست النشأة الأخرى أهون عليه من النشأة الأولى؟