ثم.. كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي.. فرد.. من اتهام ظالم، وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار، ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادئ السامقة بعد، ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص. فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي! والتواطؤ على اتهامه، والشهادة ضده - في حادث سرقة درع - أمام النبي - ﷺ - حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة، ويبرئ الفاعل الأصلي! تنزلت هذه الآيات ذوات العدد، فيها عتاب شديد للنبي - ﷺ - وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي - ﷺ - وعزروه ونصروه.. إنصافا ليهودي، من تلك الفئة التي تؤذي رسول اللّه - ﷺ - أشد الإيذاء، وتنصب لدعوته، وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئيم! وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا. وفيها - من ثم - تلك النقلة العجيبة، إلى تلك القمة السامقة، وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد.
لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي.. من يهود..
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ - وَهُوَ مَعَهُمْ - إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا؟ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
فماذا ؟ ماذا يملك الإنسان أن يقول ؟ ألا أنه المنهج الفريد، الذي يملك - وحده - أن يلتقط الجماعة البشرية، من سفح الجاهلية ذاك ; فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد ; فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة، في مثل هذا الزمن القصير ؟! (١)
=================