فلا جرم أنّ بعض سورة المائدة نزلت في عام حجّة الوداع، وحسبك دليلاً اشتمالها على آية ) اليومَ أكملت لكم دينكم ( ( المائدة : ٣ ) التي اتّفق أهل الأثر على أنَّها نزلت يومَ عرفة، عام حجّة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب. وفي سورة المائدة ( ٣ ) قوله تعالى :( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم. وفي خطبة حجّة الوداع يقول رسول الله : إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنَّه قد رضي بما دون ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم.
وقد عدّت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول. عن جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة. وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور، ومائة وثلاث وعشرون في عدّ البصرييين، ومائة وعشرون عند الكوفيين.
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أنّ سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعلّ ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عَوناً على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض.
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبيء بأنّها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به، فقد كان النبي يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكلّ مسلم، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح. وأخذَ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة، كما روى عبادة بن الصامت. ووقع في أوّلها قوله تعالى : إنّ الله يحكم ما يريد ( ( المائدة : ١ ). فكانت طالعتها براعة استهلال.
وذكر القرطبي أنّ فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي سبع في قوله :( والمنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة. وما أكل السبع... وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام ( ( المائدة : ٣ )، ) وما عَلَّمتم من الجوارح مكلّبين ( ( المائدة : ٤ )، ) وطعامُ الذين أوتوا الكتاب... والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ( ( المائدة : ٥ )، وتمام الطهور ) إذا قمتم إلى الصلاة ( ( المائدة : ٦ )، ( أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء ) ) والسارق والسارقة ( ( المائدة : ٣٨ ). و ) لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله عزيز ذو انتقام ( ( المائدة : ٩٥ )، و ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائية ولا وصيلة ولا حام ( ( المائدة : ١٠٣ )، وقوله تعالى :( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ( ( المائدة : ١٠٦ ) الآية وقوله :( وإذا ناديتم إلى الصلاة ( ( المائدة : ٥٨ ) ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلاّ في هذه السورة. اه.
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات، وعلى حفظ شعائر الله في الحجّ والشهر الحرام، والنهي عن بعض المحرّمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام، وفيها شرائع الوضوء، والغسل، والتيمّم،