الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه : إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد.. الأصل فيه إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك..
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم.. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح أو ألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى «الدين» كما أراده اللّه وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين.
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في اطار سورة واحدة وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه.. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني إنما ينص عليه نصا ويؤكده تأكيدا ويتكىء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو «الدين» وأن الإقرار به كله هو «الإيمان» وأن الحكم به كله «هو الإسلام».. وأن الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه هم الكافرون. الظالمون. الفاسقون.. وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون.
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا. إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير..
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا.
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل اللّه هو «الإسلام» وأن ما شرعه اللّه للناس من حلال أو حرام هو «الدين» إلى أن اللّه هو «الإله الواحد» لا شريك له في ألوهيته وإلى أن اللّه هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه. وإلى أن اللّه هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه.. ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه. فالخالق لكل شي ء، المالك لكل شي ء، هو صاحب الحق، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.. هو الذي يشرع فيما يملك وهو الذي


الصفحة التالية
Icon