وهكذا تتبين القضية.. إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد.. وإذن فحاكم واحد. ومشرع واحد.
ومتصرف واحد.. وإذن فشريعة واحدة، ومنهج واحد، وقانون واحد.. وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل اللّه، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل اللّه، فهو كفر وظلم وفسوق.. وهذا هو الدين كما أخذ اللّه ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده.. أمة محمد والأمم قبلها على السواء..
ولم يكن بد أن يكون «دين اللّه» هو الحكم بما أنزل اللّه دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان اللّه. مظهر حاكمية اللّه. مظهر أن لا إله إلا اللّه.
وهذه الحتمية : حتمية هذا التلازم بين «دين اللّه» و«الحكم بما أنزل اللّه» لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل اللّه خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية.
وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل اللّه إقرار بألوهية اللّه، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه. وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي :«الاستسلام» وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان.. الإسلام للّه.. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة اللّه. أو حتى شريعة اللّه نفسها بنصها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم ولم يردوها للّه ولم يطبقوها باسم اللّه، إذعانا لسلطانه، واعترافا بألوهيته وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية، إلا تطبيقا لشريعة اللّه، وتقريرا لسلطانه في الأرض.
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة :«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ».. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ».. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه يعلنون رفضهم لألوهية اللّه - سبحانه - ورفضهم لإفراد اللّه - سبحانه - بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم. ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق، أخذا من رفضهم لألوهية اللّه - حين يرفضون حاكميته المطلقة وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به اللّه.
وعلى هذا المعنى يتكىء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك.


الصفحة التالية
Icon