الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد. ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم. فقول اللّه تعالى لنبيه الكريم :«وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ - إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ - فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ..» لا بد سابق على هذه الفترة. وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم..
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك، كما أن الآية التي فيها قول اللّه تعالى :«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك. فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال. وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات.
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة، وتقديم سورة آل عمران، وتقديم سورة النساء، نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها، بالجماعة المسلمة، مع أعداء هذه الجماعة، وأعداء دينها، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون، وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات.. كل ذلك في وقت واحد وفي منهج واحد وفي نفس واحد! وأهم قواعد البناء : تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش. وبيان معنى «الدين» وأنه هو منهج الحياة وأن الحكم بما أنزل اللّه وحده، والتلقي في شئون الحياة كلها من اللّه وحده هو الإيمان، وهو الإسلام وبغير هذا لا يكون هناك توحيد للّه. فتوحيد اللّه هو إفراده - سبحانه - بالألوهية وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك. والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية، كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء.. وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا..
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة «شخصيتها» وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات، والزوايا التي تعالجها منها، والأضواء التي تسلطها عليها ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض بحيث تتميز «شخصية» كل سورة تماما ويبرز طابعها الخاص.
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير.. سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله أو المبادئ والتوجيهات، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة في أسلوب التقرير الدقيق، وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة.. من بدئها إلى منتهاها.