والإنسان لم يستبعد البعث والنشور والحساب إلإ اتباعا للهوى، واحتفالا بالشهوات، واستعجالا لملذات الحياة، ولكن الحياة مهما تطل إلى زوال، فلا داعي الاستعجال، حتى رسول الله الأمين تعتريه أحيانا سمة من سمات الإنسان العجول، فيحرك لسانه بالوحي عجلان، مخافة أن يفوته حفظ شيء من القرآن، فليستعل بنبوته على الطبيعة الإنسانية العجلى، وليثق بأن منزل الوحي على قلبه قد تكفل بحفظه وصيانته، وجمعه وبيانه١.
وما أسعد الذي فضل حب الله على حب هذه الدنيا العاجلة! إنه مطمئن إلى الله، متطلع إلى رضوان الله، مستشرف إلى النعيم الروحي الأسمى الذي يتمثل في نضرة وجهه حين ينظر إلى جمال الله! أما الذين استحب العاجلة على الآجلة، وآثر اتباع الهوى على طاعة الله، فما أنكى مصيره وما أشقاه! إنه محروم من نور البصيرة المشرق، يترقب بوجهه الكالح العباس كارثة تقصم ظهره، وتحطم فقاره، وتنذره بالعذاب الأليم٢.
ولو رجع منكرو البعث مرة واحدة إلى مشهد الاحتضار الذي يتكرر كل يوم تحت أبصارهم، وتذكروا كيف يفارق الأحياء أحبتهم، ويرحلون إلى عالم مجهول، لأيقنوا بأن الله القهار الذي أمات الحي قادر على أن يحيي الميت. فإنهم يعرفون أن الرقى والتعاويذ لا تغني عن المحتضر شيئا متى بلغت روحه الحلقوم، وتلوي من سكرات الموت في كرب شديد. فمن كان مشهد الاحتضار لا يرعبه، وانتزاع الأحبة لا يقلقه، فليذهب في درب الحياة فخورا، وليمط ظهره متعاجبا مزهوا، وليعرض عن الحق أيما إعراض. إن الويل لينتظره، وإن غضب الله قد حل بساحته!.
وما كان على منكري البعث إلا أن يلتفتوا إلى نشأتهم الأولى ليقيسوا عليها بمنطق الفطرة نشأتهم الآخرة، ألم يكن الإنسان ماء رقيقا مهينا؟ ألم يتحول هذا الماء دما متجمدا عالقا بجدران الرحم؟ أولم يتطور في هذا القرار المكين حتى أضحى جنينا به خصائص الذكر أو خصائص الأنثى؟ فهل يعجز عن إحيائه من خلقه من العدم؟ وهل يتركه خالقه الحكيم سدى؟ ألا تنطق الفطرة السليمة بوجوب البعث والنشور، وثواب المتقين وعقاب الفاجرين؟١.
وفي سورة "المرسلات" نمط خاص فريد في تصوير أجمل مشاهد الدنيا وأعنف مشاهد الآخرة، وأصدق حقائق الكون وأعمق أغوار النفس، في مقاطع شافية الفواصل، متعددة الأنغام، مصحوبة بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين﴾ يتكرر فيها عشر مرات كأنه لازمة الإيقاع، وتجيء هذه المقاطع، بسماتها الحادة العنيفة، متناسقة كل التناسق مع مطلع السورة الرهيب الذي أقسم الله فيه بالملائكة المرسلات على أن وعده بالآخرة واقع لا ريب فيه.