قال فخر الدّين : قال الأصوليّون ( أي علماء أصول الدين ) : السبب في إنزالها دفعة واحدة أنّها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطّلين والملحدين فإنزال ما يدلّ على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأمّا ما يدلّ على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة.
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدّها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله :( وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( ( الأنعام : ١٣٦ )، وفيما حرّموه على أنفسهم ممّا رزقهم الله.
وفي ( صحيح البخاري ) أنّ ابن عبّاس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ( ١٤٠ ) ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين. (١)
تمهيد بين يدي السورة
١ - متى نزلت سورة الأنعام؟
سورة الأنعام عدد آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب المصحف، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة، فقد سبقتها سور :
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وهي سور مدنية باستثناء سورة الفاتحة.
أما ترتيبها في النزول فقد قال العلماء : إنها السورة السادسة والخمسون، وإن نزولها كان بعد نزول سورة « الحجر ».
ويغلب على الظن أن نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة، وذلك لأن سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي - ﷺ - بأن يجهر بدعوته وهي قوله - تعالى - فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
ومن المعروف تاريخيا أن النبي - ﷺ - مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة اللّه زهاء ثلاث سنين، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره اللّه بأن يصدع بما يؤمر به، أى : يجهر بما يكلف بتبليغه للناس، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر بها.
قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية :« ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن اللّه - تعالى - أمر رسوله - ﷺ - أن يصدع

(١) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (٧ / ١٢١)


الصفحة التالية
Icon