عند ما نفتح كتاب اللّه لنتدبر ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد حكيمة، وتوجيهات نافعة، نراها في مطلعها قد ابتدأت بحمد اللّه والثناء عليه وبيان استحقاقه لذلك، لأنه - سبحانه - هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما، وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ. ثم تحدثت السورة الكريمة عن طبائع المعاندين، وأنذرتهم بسوء المصير إذا ما استمروا في عتوهم وجحودهم، وساقت لهم - ليعتبروا، ما حل بالمكذبين الذين سبقوهم والذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا، فعليهم أن يفيئوا إلى رشدهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم. استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ المؤثر، فيقول تعالى : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تسلية الرسول - ﷺ - فترسم صورة عجيبة لمكابرة المشركين وأنهم قد غدوا - لانطماس بصيرتهم واستيلاء الجحود على قلوبهم - لا يجدي معهم توجيه أو دليل، حتى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم، وقرءوه بأعينهم، وعرفوا منه صدق نبوتك يا محمد، لقالوا بعد كل ذلك إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
قال تعالى : وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة الأنعام، ألفيناها تسوق حشودا من البراهين الدالة على وحدانية اللّه وقدرته بطريقة تحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى، وبأسلوب يسكب في القلوب السكينة والطمأنينة، ويقنع العقول السليمة بأن المستحق للعبادة والخضوع إنما هو اللّه وحده. قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلْ لِلَّهِ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ


الصفحة التالية
Icon