وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثم أخذ بعد ذلك يجادل قومه ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، ويقيم لهم الأدلة على بطلان معتقداتهم.
تأمل معى - أيها القارئ الكريم - تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البديع فتقول : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً، إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثم مضت السورة الكريمة في الحديث عن رسل اللّه الذين آتاهم اللّه الحجة على أقوامهم، وختمت الحديث عنهم بالثناء عليهم ووجوب الاقتداء بهم في هديهم وسلوكهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
وبعد هذا القصص المذكر، والتوجيه المنبه، والتدليل الواضح على وحدانية اللّه وقدرته ساقت لنا السورة في الربع السادس منها حشودا متنوعة من مظاهر قدرة اللّه ومن نعمه التي لا تحصى على عباده. إنها هنا توقفنا أمام هذا الكون الرائع البديع لتقول لنا : انظروا ماذا في السموات والأرض، ثم اتجهوا بالعبادة والخضوع إلى اللّه رب العالمين، فهو الذي فلق الحب فكان منه النبات، وفلق النوى فكان منه الشجر، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وهو الذي يأتيكم بالضياء بعد الليل المظلم لكي تبتغوا من فضله، ويأتيكم بالليل بعد النهار لكي تسكنوا فيه بعد طول الكدح والعناء، وهو الذي يسير الشمس والقمر بتقدير دقيق وحساب لا يتخلف، وهو الذي زين السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، وهو الذي أوجدكم جميعا من نفس واحدة لها مستقر في أصلاب الرجال ومستودع في أرحام النساء، وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء. لأن الماء قوام الحياة.
استمع إلى القرآن وهو يحكى كل هذه النعم الدالة على قدرة اللّه وفضله فيقول : إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ