وقد وزنه الله أحكم الوزن في طعمه ولونه وريحه ليكون رزقا للخلق ومعايش للعباد، ينزل من خزائن الرحمن بقدر معلوم، وتلك رياح لواقح تحمل الماء وتنطلق به ثم تسقطه مطرا غزيرًا مدرارًا٣ يروي العطاش ويحيي الموات، فالملك كله بيد الله، وارث السموات والأرض، يحيي ويميت وإليه المصير.
وللقرآن أطرف الأساليب في إيقاظ الهجع الرقود: إن قصصه الديني ليفتح القلوب الغلف، ويضيء العيون العمي، ويرهف الآذان الصم، حين يذيع أسرار الوجود. لذلك عرضت سورة "الحجر" هنا حقائق الهدى والضلال من خلال قصة آدم وإبليس: إن هذين المخلوقين يختلفان في المنشأ فلا عجب إذا اختلفا في المصير. أما آدم فمخلوق من طين هذه الأرض، من صلصالها اليابس الذي يصلصل إن نقر، وفيه نفحة من روح الله يستشرف بها إلى الملأ الأعلى، وهو بذلك جدير بأن تقع له الملائكة ساجدين. وأما إبليس فمخلوق من نار سامة١، ولهب خالص، فالشر يكتنفه من كل جانب، والغرور يدفعه إلى الاستعلاء، فيأبى السجود لآدم، ويحصر وظيفته في إغواء ذريته إلا عباد الله المخلصين.
وهكذا انقسم البشر: إلى غاوين من أتباع إبليس، يدخلون جنهم داخرين لكل باب من أبوابها السبعة صنف معلوم٢، ومهتدين من عباد الرحمن ينعمون بالجنات والعيون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وحقائق الهدى والضلال حلقات متتابعات في قصص الأنبياء: فليستمع المشركون إلى قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وليذكروا كيف خاف منهم ثم اطمأن إليهم حين بشروه على الكبر بغلام عليم، وإلى قصة لوط حين ضاق ذرعا بقومه الفجرة الفاحشين، فأسرى بأهله ليلا قبل أن يداهمهم الصبح القريب بمطر من حجارة من سجيل، وإلى قصة أصحاب الأيكة الذين كذبوا شعيبا فلقوا مصرعهم في وقته المحتوم، وإلى قصة أصحاب الحجر١ الذين كذبوا صالحا وأعرضوا عنه، وألهاهم الأمل الكاذب فيما نحتوه من البيوت المحصنة في صلب الصخور، ثم أتت على حصنهم صيحة طاغية فدمرتها تدميرًا وهم فيها آمنون في سكون الصبح الجميل.
وإذا لم يكن للمشركين في هذا القصص عبرة، فليكن لمحمد فيه أسوة حسنة، وليتسل به عما يلقاه من قومه، وليكتشف من خلاله الحق الذي أقام الله عليه السموات والأرض، وليصفح الصفح الجميل عن أعدائه الجاهلين، وليمض في طريق الدعوة إلى الله ولينذر الغافلين، وليصرف بصره عن متاع الغرور قانعا بما آتاه الله من السبع المثاني٢ والقرآن العظيم، وليجهر بالوحي الذي أنزل الله مثله على قلوب النبيين، فإن العاقبة للمتقين.
وإننا -إذ نختم بسورة "الحجر" تحليلنا السريع لما اخترناه من سور المرحلة المتوسطة- لا يغيب عنا أن انفرادها بميزة الطول النسبي إرهاص لما سنلمحه في المرحلة الأخيرة من طول نسبي أيضا حتى ليصعب التمييز بين سور المرحلتين في هذه الخصيصة ولا سيما إذا لاحظنا أن الفصل بين مختلف الزمر أمر اعتباري