وبعد هذه الحملة العنيفة الساخرة على الأسطورة الجاهلية الحمقاء، تهدد السورة مخترعي هذه الأساطير بمصيرهم المشئوم، وتعرض عليهم سنة الله في نصر جنده المخلصين، فلله العزة جميعا، وعلى رسله السلام، وله الحمد ولا يمكننا الجزم بأن القرآن -حين أبطل تأنيث الملائكة- قد أثبت لها صفة الذكورة، فإن الملائكة من عالم الغيب الذي لا نعرف منه على وجه اليقين إلا ما جاء صراحة في الكتاب أو على لسان المعصوم، ولم يكلفنا الله ولا رسوله معرفة جنس الملائكة، أإناث هم أم ذكور، بل وصفهم لنا ببعض وظائفهم في طاعة الله بعلامات التأنيث تارة وأمارات التذكير تارة أخرى، ومن ذلك أن مثولهم صفا بين يدي الله عبر عنه في مطلع هذه السورة بـ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ على جمع المؤنث السالم، وفي أواخرها بقوله على لسان الملائكة: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ على جمع المذكر السالم. وتذكير الملائكة لفظا -بوجه عام- هو الذي يغلب في القرآن، ومنه قوله تعالى في غير هذا الموضع: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾.
وحده لا شريك له منزها عن كل ما يصفون وما يخترعون١.
وحين ننتقل الآن إلى سورة "الكهف" لا مفر لنا من الإيجاز الشديد، والاستغناء في أكثر المواطن بالتلويح عن التصريح، لأننا نواجه سورة طويلة من عشر ومئة آية، ونلاحظ في آياتها نفسها انسيابا وطولا وإطنابا إلا في مقاطع قليلة، فضلا على ما يتلى في أوائلها وأواسطها، وأواخرها من قصص ديني يكاد يستغرق ثلثيها، وفضلا على ما يتخلل هذا القصص أو يعقبه من تعليق أو تذييل أو تفسير.
وربما بدت لنا سورة "الكهف" إحدى السور التي تفسح المجال لتفصيل الحديث عن خضوع القصة في القرآن للغرض الديني، ولكننا لن نعرض لهذا التفصيل إلا بقدر مخافة الذهاب باستطرادنا بيعدا عن غايتنا الأساسية في هذا الفصل، إذ يعنينا منه تقصي الخطوات التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة ثم في المدينة، ولا ريب أن تقصي هذه الخطوات لا يسمح لنا -حتى في السور التي اخترنا تحليلها- باستطراد مفصل ولا تعقيب طويل.
تهدف سورة "الكهف" -كجميع السور المكية ولا سيما في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة- إلى بناء العقيدة بناء سليما في إثبات الوحدانية، والفصل الواضح بين ذات الخالق وذات المخلوق، وكشف الحجب عن ظاهرة الوحي وأسرارها المعجزة العجيبة. ولا حاجة بنا إلى التصريح بمقاطع السورة وآياتها الناطقة بهذه الحقائق، فإنها تنبئ عن نفسها ولو اكتفى القارئ بإلقاء نظرة عجلى إليها. وحسبك في بدايتها أن هذا القرآن أنزل غير ذي عوج لتبشير المؤمنين الموحدين وإنذار الذين قالوا: اتخذ الله ولدا٢، وفي نهايتها أن محمدا - ﷺ - يؤمر بتوضيح الفرق الذي لا يتناهى بين آفاقه البشرية المحدودة وأفق الوحي المبين، فما هو إلا بشر مثل سائر البشر، وإنما يمتاز عنهم بتلقيه أوامر ربه الذي يقذف في قبله نور النبوة والهداية١، وفي


الصفحة التالية
Icon