كما أن الآية : ٣٦ وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد :
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ»..
والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض. فقد جاء فيها : أن أبا طالب قال لرسول اللّه - ﷺ - ما يأتمر به قومك؟ قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال : من أخبرك بهذا؟ قال : ربي. قال : نعم الرب ربك. فاستوص به خيرا! فقال رسول اللّه - ﷺ - : أنا استوصي به! بل هو يستوصي بي خيرا! فنزلت :«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ».. الآية..
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله :«وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا، بل منكر. لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين. لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه»..
وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد اللّه ابن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس - وعنه كذلك من طريق آخر - حديثا طويلا عن تبييت قريش ومكرهم هذا، جاء في نهايته قوله :«.. وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه - بعد قدومه المدينة - «الأنفال» يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده :«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ»..
وهذه الرواية عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها.
من تذكير اللّه سبحانه لنبيه - ﷺ - وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل اللّه والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف.. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا الأمر كما سنبين.. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى..
وبعد، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان - رضي اللّه عنه - لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين.. مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع.
واللّه المستعان..