وينعكس، في مقابل هذه الصورة، "نموذج" آخر يجسد الإنسان الكافر الكنود الذي يتلو كتاب الكون بلسان جاحد، وينظر إلى آفاقه الجميلة ببصر حسير، فلا يبالي بشيء مما سخره الله له في السماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والنجم والشجر، واليل والنهار. وعلى أمثاله يلقي القرآن سياط التقريع والتأنيب تهز القلب وتلذع الوجدان وهو يقول: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾٢.
وإبراهيم، الذي عرضت من خلال شخصيته النبوية الكبرى تلك العقائد والتعاليم لم يك مجهولا في مكة: فجميع المكيين يعظمون إبراهيم، ولم يك مجهولا في المدينة فجميع يهود يثرب كانوا يقدسون الخليل، ولم تكن أخباره خافية على النصارى حيثما وجدوا فإن له في قلوبهم مكانة يغبطه عليها سائر النبيين: فإلقاء الأضواء على عقيدة التوحيد وعلى دعوة الرسل في إطار من شخص إبراهيم قد لون هذه السورة لونا يجمع على استحسانه أهل مكة وأهل التوحيد، وفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الحنفاء للدخول في دين الله أفواجا، وجاء في أواخر الوحي المكي إرهاصًا لأوائل السورة المدنية التي دأبت على تعظيم إبراهيم، وعلى تألف قلوب اليهود بمثل هذا التعظيم، وفي هذه الأضواء الخاصة برزت سورة "إبراهيم" بنمط فريد، في عرض فكرة التوحيد٣.
وعقب تحليلنا لهذه السورة -بعد سورتي الصافات والكهف- أشرفنا على نهاية الوحي في مكة، وبتنا نستشعر جوا جديد يكاد يجعل المرحلة المكية الثالثة مرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سيتعاقب على ما يجد من الوقائع بعد الهجرة، وربا فسرنا -في ضوء هذه المرحلة الانتقالية- كثرة الآيات والمقاطع التي التبست على المفسرين فظنوها مدنية واستثنوها من بعض السور المكية غافلين عن العامل الزمني الذي نعتقد نحن أنه فرض تلك المقاطع ذات الطابع المدني على سور طابعها مكي -مع أن السور برمتها مكية خالصة- وفقا لتمهيده الطريق بين مراحل الوحي المدني المقبل سريعا من وراء حجاب الغيب.
ولقد امتازت سور المرحلة المكية الختامية بطولها وطول آياتها، وافتتاح طائفة منها ببعض الحروف المقطعة، وتوجيه الخطاب فيها إلى الناس جميعا لا إلى أهل مكة وحدهم، والتذكير بطاعة الله ورسوله تمهيدا لما سيفصل في المدينة من الفرائض والواجبات، والدعوة إلى الإحسان والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار، وتوضيح شئون الغيب المتعلقة بذات الله وصفاته، أو بالملائكة والجن، أو بالأنبياء والأولياء، أو بالمعجزات والكرامات، ورد الهداية والضلال إلى الله إلى جانب ما يتصرف به الإنسان في حدود حريته واختياره، وعرض قصص النبيين ولا سيما أئمتهم المعظمين كإبراهيم، وتصوير عقيدة التوحيد بأسلوب جديد.