افتتحت هذه السورة بالحديث عن الآنفال، فالمعركة قد انتهت، والنصر قد تحقق، وبدأ المسلمون يختلفون في الغنائم والأسلاب، ثم رسمت صورة فريق من المؤمنين أقبلوا على المعركة كارهين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، ثم صورت استغاثة المؤمنين بربهم، ومده لهم بالملائكة والنعاس والماء يذهب عنهم رجس الشيطان، ثم أمست عبارتها صاخبة بما توالى فيها من الأوامر والأحكام العسكرية المتعلقة بالفرار يوم الزحف، ويمتن الله -بعد ذلك- على المؤمنين بالنصر، فما قتلوا عدوهم ولكن الله قتلهم، وما النصر إلا من عند الله، وتتعاقب التعاليم الدينية والأخلاقية للمؤمنين بعد المعركة، فليطيعوا الله والرسول، وليحذروا الفتن العامة التي يختلط فيها الفاسد بالصالح، وليحذورا خيانة الله وخيانة أماناتهم وهم يعلمون.
وتستعرض السورة -في غضون هذه التعاليم- صورا من مكر الكافرين وعنادهم، وتقرر مبادئ عامة في اضمحلال القوى الكافرة واستحالة أموالها حسرات عليها. ثم تنذر الكافرين بقتالهم لحماية العقيدة ونشر دين الله، وتتحدث عن الغنائم وطرقة توزيعها ومصارفها، وتصور جانبا من معركة بدر وتفصل وقائعها حين كان المؤمنون بالعدوة الدنيا والمشركون بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم، وترتد إلى المؤمنين، كرة أخرى تحذرهم من الاغترار بالنصر، ومن السير للقتال بطرا ورياء، وتعرض عليهم صورة الكافرين على فراش الموت، ثم تدعو إلى إعداد القوة لحماية السلم، وترغب صراحة في الجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، ولكنها تظل تحرض المؤمنين على القتال، وتثير فيهم القوة المعنوية، وتجعل أحدهم في حال الضعف كفوءا لاثنين من المشركين وفي حال القوة كفؤا لعشرة من الرجال، وتعود إلى بدر فتعتب على النبي وصحبه لأخذهم الفداء من الأسرى وإيثارهم عرض الدنيا على الآخرة، وتقرر في الختام أنواع الولاية الأربعة وترتب على هذه التصنيفات بعض الحقوق والواجبات١. وتظل الأدة المفضلة لعرض هذه التشريعات هي التصوير، فما ألقيت تفصيلاتها جافة كما تلقى أحكام القانون.
وهكذا كان تنوع الموضوعات هو الباعث الأهم على تنوع الأسلوب القرآني، فما هما بالأسلوبين المتعارضين اللذين لا تربط بينهما صلة، وإنما هو أسلوب واحد يشتد أو يلين، ويفصل أو يجمل تبعا لحال المخاطبين. وهذا سر من أسرار الإعجاز التي يمتاز بها القرآن الكريم. (١)
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع (٢) :
[أ] - أما من حيث الأسلوب فهو:

(١) - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص ١٦٤ فما بعدها، وقد تركتنا الهوامش للاختصار
(٢) - مقدمة في أصول التفسير - (٢ / ٨)


الصفحة التالية
Icon