تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوي قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذ ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء، وما قاله أيضا "أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين" اهـ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبت فؤاد النبي - ﷺ - ويشرح صدره.
وما قاله بعد ذلك "إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلما نزل شيء منها، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة" اهـ.
ومنه ما قال الجد الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره. (١)
وقد قال المفسرون في سياق الآيات إن الكفار كانوا يتحدّون النبي - ﷺ - بإنزال القرآن جملة واحدة كما أنزلت الكتب السماوية التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة. وعلّلوا نزول القرآن على النبي - ﷺ - مفرقا بأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فكان لا بد له من التلقين والحفظ اللذين يقتضيان إنزال القرآن مفرّقا في حين كان الأنبياء الأولون يقرأون ويكتبون فنزلت عليهم جملة واحدة ومكتوبة «٢».
وقد يكون ما قاله المفسرون عن سبب تحدّي الكفار صحيحا، وأن يكون هؤلاء سمعوا من الكتابيين أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على موسى وعيسى وداود عليهم السلام جملة واحدة. غير أننا لا نستطيع موافقتهم على أخذهم ذلك كقضية مسلّم بها وتعليلهم إياه بأمّية النبي - ﷺ -. فباستثناء الألواح التي ذكرت آية الأعراف [١٤٥] أن اللّه أنزلها مكتوبة على موسى لم يرد في القرآن صراحة أن اللّه أنزل الكتب الأخرى مكتوبة ودفعة واحدة. والأسفار المنسوبة إلى موسى والعائدة إلى عهده وحياته والمتداولة اليوم تذكر أن اللّه إنما أمر موسى بإحضار لوحين وتكرر كذلك أن موسى كتب كلام الربّ في سفر وسلّمه للاويين لحفظه في تابوت العهد في بيت الربّ وتفيد أن معظم ما احتوته من تعليمات وتشريعات نزل مفرّقا وفي فترات ومناسبات عديدة وفق سير الظروف بالنسبة لموسى عليه السلام وبالنسبة لبني إسرائيل «٣». والزبور الذي هو على الأرجح سفر المزامير مقاطع متتالية فيها تسبيح وتقديس وابتهال بلسان داود عليه السلام. ويتبادر منها أنها لم توح إلى داود مرة واحدة. وليس في اليد إنجيل منسوب إلى عيسى عليه السلام ولم يرو أحد أنه اطّلع على مثل ذلك. والأناجيل المتداولة هي ترجمة لحياته تضمّنت كثيرا من

(١) - التحرير والتنوير - (١٩ / ٤٥)


الصفحة التالية
Icon