ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم اللّه التام، وبقدرته النافذة، وفصلت مظاهر هذه القدرة، وشمول هذا العلم..
قال - تعالى - : أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة، وفي حالة سلبها عنه، وساقت للرسول - ﷺ - من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة اللّه، الصادين عن سبيله، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ....
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة هود، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل، قصة نوح - عليه السلام - مع قومه، فتحكى أمره لهم بعبادة اللّه وحده، كما تحكى الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم، وكيف أنه - عليه السلام - لم يقابل سفاهتهم بمثلها، بل خاطبهم بلفظ « يا قوم » الدال على أنه واحد منهم، يسره ما يسرهم، ويؤلمه ما يؤلمهم، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له - كما حكى القرآن عنهم - يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ....
فكان رده عليهم إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ....
وقد أتاهم اللّه - تعالى - بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والذي قطع دابرهم.
ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث، تقص علينا مشهدا مؤثرا، مشهد نوح - عليه السلام - وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له : سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.


الصفحة التالية
Icon