وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. (١)
معنى ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾ أي: فصّلناه، أو أنزلناه مُفرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث ﴿ عَلَىا مُكْثٍ ﴾ على تمهُّل وتُؤدَة وتأنٍّ.
وقد جاءت هذه الآية للردِّ على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما قال تعالى حكاية عنهم:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.. ﴾[الفرقان: ٣٢]
وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم، وأبان ما هُمْ فيه من تناقض، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن. وهاهم الآن يُقِرُّون بأنه نزل عليه، أي: من جهة أعلى، ولا دَخْلَ له فيه، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن.
ثم يتولّى الحق سبحانه الردّ عليهم في هذا الاقتراح، ويُبيِّن أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية:
١.﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.. ﴾[الفرقان: ٣٢]
﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي: أنزلناه كذلك على الأمر الذي تنتقدونه من أنه نزل مُفرّقاً مُنجّماً حسْب الأحداث﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.. ﴾[الفرقان: ٣٢] لأن رسول الله - ﷺ - سيتعرّض لكثير من تعنّتات الكفار، وسيقف مواقف مُحرِجة من تعذيب وتنكيل وسخرية واستهزاء، وهو في كل حالة من هذه يحتاج لتثبيت وتسلية.
وفي نزول الوحي عليه يَوْماً بعد يَوْم، وحسْب الأحداث ما يُخفّف عنه، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومَشَاقِّ الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمَنْ بعثه وأرسله، أما لو نزل القرآن جملةً واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة، ولَفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله.