لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشىء مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي «الأوامر اليومية» التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان «الأمر اليومي» مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه..
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول - ﷺ - ويثبته على طريقه ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل، وجزءا بعد جزء :«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا»..
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة اللّه وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي..
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا، وتأثرت به يوما يوما، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة، فحسب، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشي ء، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير.. (١)
تنجيم القرآن وأسراره (٢)
لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي متجاوبا مع الرسول - ﷺ - يعلمه كل يوم شيئا جديدًا، ويرشده ويهديه، ويثبته ويزيده اطمئنانا، ومتجاوبا مع الصحابة يربيهم ويصلح عاداتهم، ويجيب
(٢) - مباحث في علوم القرآن الصالح ص ٤٩ فما بعدها