يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر، تتلى فى صحائف الكون بكرة وعشيا، تفسّر طيب نجاره وطهارة إزاره، وعفته فى شبابه، وقوّته فى دينه، وإيثاره لآخرته على دنياه، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المثل العليا فى العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان باللّه ومراقبته له فى السر والعلن.
وسورته منقبة عظمى له، وآية بينة فى إثبات عصمته، وأفضل مثل عملى يقتدى به النساء فالرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بأذنه تغلب الفضيلة فى المؤمن على كل رذيلة، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة، وأكملهم بنية، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان وهى سيدة له وهو عبدها، يحملها الافتتان بجماله على أن تذلّ نفسها له، وتخون بعلها فتراوده عن نفسه (وقد جرت العادة حتى فى الطبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات) فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس فى الإيمان باللّه والاعتصام بحبله المتين، وفى حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول :« إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » فتشعر حينئذ بالذل والمهانة، والتفريط فى الشرف والصيانة، وتحقير مقام السيادة والكرامة.
إلا أن فيها أعظم دليل على صبره وحلمه وأمانته وعدله، وحكمته وعلمه، وعفوه وإحسانه، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقوه فى غيابة الجب وأخرجته السيارة وباعوه بيع العبيد، وكادت له امرأة العزيز فزجّ فى السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة، إذ علم ما فى الفاحشة من مفاسد، وما فى العدل والإحسان من منافع ومصالح، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أن نجّاه اللّه ورفع قدره، وأذل العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، ومكّن له فى الأرض وكانت عاقبته النصر، والملك والحكم، والعاقبة للمتقين، قال سبحانه :« وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ».
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم فى مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد فى المجاعات، ثم الهلاك المحقق لو لا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جنف ولا ميل مع الهوى.
ما فى قصص يوسف من عبرة
إن فى هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعلية القوم وساداتهم، رجالهم ونسائهم، مجّانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت فى سيرتها غير عادية، لكنها ابتليت بحب هذا