قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}٤. ويعلمه أحيانا أن الكافرين لا يجرحون شخصه في نفسه، ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنما يعاندون الحق بغيا من عند أنفسهم، لأنهم شرذمة من الجاحدين تتكرر في كل عصر وجيل، كما في قوله: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾٥. وفي تفسير هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير: "يقول تعالى مسليا لنبيه - ﷺ - في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ أي: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك علهيم كقوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، و﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم"٦.
وتكرار نزول هذه الآيات المسلية، المعزية، المرشدة إلى الصبر الجميل والأسوة الحسنة، هو الحكمة المقصودة من إيراد أنباء الرسل وقص قصصهم.
ولو استمر اضطهاد المشركين لرسول الله - ﷺ - وانقطع عنه الوحي المثبت لقلبه، فلم يتجدد نزول الآيات المسلية له، لشعر عليه الصلاة والسلام بما يشعر به البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، واستبداد اليأس بنفسه، والله لم ينهه عن الحزن والحسرات وبخع النفس وضيق الصدر -كما رأينا- إلا لأنه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النفسية، وقد انتبه إلى هذا المعنى السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾١ فقال: "والآية تسلية للرسول - ﷺ - بعد تسلية، وإرشاد إلى سنته تعالى في الرسل والأمم، أو هي تذكير بهذه السنة وما تتضمنه من حسن الأسوة إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى" ثم زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: "ولولا أن دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطبع البشري لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي - ﷺ - كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل، فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتيج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له - ﷺ -، من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم"٢.
والصورة الثانية لتجاوب الوحي مع الرسول - ﷺ - هي -كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. ومن العلماء من يرى أن "تثبيت فؤاده" المذكور في آية الفرقان السابقة لا يراد منه إلا جمع القرآن حفظا في