وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد (١)، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها والتي تفعم النفس، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات، والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات : صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها.
لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!
إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية (٢) كلها على وجه التقريب - هو العقيدة وقضاياها
هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الدينونة للّه وحده في الدنيا والآخرة جميعا ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث.. وما إليها...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة وفي ضوء جديد ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد! إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال في كلمات وينتهي كأية قضية ذهنية باردة إنما تعرض وحولها اطار، هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد ولا تبلى جدتها. لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك، وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف! ومن ثم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي لا تنفد ولا تبلى جدتها! وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة : في السماوات المرفوعة بغير عمد. وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس نابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى

(١) - الإيقاع الموسيقي في القرآن يتألف من عناصر شتى : من مخارج الحروف في الكلمة الواحدة ومن تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة ومن اتجاهات المد في الكلمات، ثم من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات ومن حرف الفاصلة ذاته (و قد تكلمت عن هذا بتوسع في كتاب التصوير الفني) وجميع العناصر التي يتألف منها الإيقاع في هذه السورة واحدة فيما عدا اتجاه المد وحرف الفاصلة في القسم الأول منها حتى آية ٥ فمد الفاصلة وحرفها :«يؤمنون. توقنون. يتفكرون. يعقلون. خالدون» وبقية السورة :«العقاب. هاد. بمقدار. المتعال. بالنهار... إلخ».
(٢) - السورة مكية بخلاف ما ورد في المصحف الأميري وبعض المصاحف - اعتمادا على بعض الروايات - أنها مدنية.. ومكية السورة شديدة الوضوح : سواء في طبيعة موضوعها، أو طريقة أدائها، أو في جوها العام. الذي لا يخطىء تنسمه من يعيش فترة في ظلال القرآن!


الصفحة التالية
Icon