وكل قضية سطحية تنزلق إلى نفس الفرد أو إلى نفس الجماعة فتفسد علها فطرتها الزكية النقية، فهي جريمة في الحياة الإنسانية لا يجوز السكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، ولتكن حدوده فيها غير قابلة للنقاش، فما يناقش في أمر هذه الحدود إلا الخارج على مقتضى الفطرة، المنسلخ من الكرامة الإنسانية٢.
وفي ضوء هذه التفرقة بين الأعماق والسطحيات في الأنفس والآفاق، وفي الأفراد والمجتمعات، نظر الإسلام إلى القتل والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل ومختلف ضروب الغش في المعاملات نظرته إلى الزنى، فحرمها مرة واحدة تحريما قاطعا لا تساهل فيه.
وإذ صح أن التعبير عن التحريم أكثر هذه الأشياء إنما ورد في الكتاب متأخرا، وأن أكثرها وقع تحريمه في المدينة بعد هجرة الرسول - ﷺ -، إليها، فلا يصح القول -على وجه الإطلاق والتعميم- بتدرج التحريم على مراحل في هذه الشئون: فكما حرم الله الزنى في لهجة قاطعة فقال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ حرم القتل في خطوة جازمة فقال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾١، وحرم السرقة يوم قضت حكمته أن يعبر عن تحريمها في أسلوب صارم فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾٢.
وبمثل هذه الصرامة حرم اغتصاب أموال الناس بغير حق فقال: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾٣، وكل لون من ألوان الغش في المعاملات إنما جاء تحريمه في الكتاب بهذه الصيغ الجازمة، فإن لم يكن في الكتاب ففي السنة المطهرة.
والإسلام مهما يبد حريصا على تدرج التشريع وتنجيم النوازل القرآنية لا يسمح قط بالخلط بين تأخير البيان لوقت الحاجة وبين تدرج التشريع، فلقد أخر الله بيان أحكام كثيرة من حلال وحرام، ومن أوامر ونواه، ولكنه حين أراد بيانها أمضى أمره فيها مرة واحدة، ولم يدع فيها للتدريج مجالًا، وعلم المؤمنين بهذا سرعة الاستجابة للأوامر الدينية وأعدهم به لتحمل التكاليف الشرعية: ففي أول أمرهم كلفهم بالصلاة والصدقة والصيام، إلا أن الصلاة كانت في البداية صلاة مطلقة بالغدوة والعشي، فما فرضت عليهم بعددها في اليوم والليلة وركعاتها وأشكالها إلا قبل الهجرة بسنة. وعرف المسلمون في أول أمرهم أنواعا من الصدقة والصيام ولكن مقادير الزكاة وشروط الصيام لم تفرض إلا بعد الهجرة بسنة، فهذا كله من مرانة الإسلام ويسره وسماحته: إذ قال الله: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾١، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾٢، فما يريد الله أن يشق على عباده وإنما يأخذهم بالرفق، وينهاهم عن كثرة السؤال لئلا يبدو لهم ما يكرهون من جديد التكاليف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾٣.


الصفحة التالية
Icon