وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة. تتجلى. في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعد ما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة..
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل - ﷺ - فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة :«اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...».
إن هذه الرسالة حق وجد. كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ولا مجال لطلب الآيات الخارقة وآيات اللّه في الكون وسنن الكون كله. توحي بأنه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير، الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع.. يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا. فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما. وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها..
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا. وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك. ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه. أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار. ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع.
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة :
الأول : ويبدأ بمطلع قوي الضربات، يهز القلوب هزا، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية :«اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ... إلخ».
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين :«وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا : يا وَيْلَنا! إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ»..