العدد بضرب من التلويح: فمن قطع من أولئك المفسرين بأن سن الأربعين ترادف في الآية ﴿عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾، فقد استلهم واقع السيرة المطهرة ثم نزل السياق القرآني على أحكام هذا الواقع تنزيلا..
أما ما أثاره المستشرقون من شبهات حول تفسير الآية فمغالطة عليم أو سفه جهول: فإنهم زعموا أن لا قبل لباحث بتحديد عمر النبي في بدء الوحي١، وعلل بعضهم تعذر هذا التحديد باضطراب الروايات وتناقضها٢ بينما فسره بعضهم الآخر بما درج عليه العرب وأكثر الساميين من إضفاء صفة سحرية على رقم الأربعين الذي ينطوي على أعمق الأسرار٣.
ومغالطتهم -على علم- تتمثل في معرفتهم كذب دعواهم فيما زعموه من اضطراب الروايات، فإن تعدد الروايات لا يستلزم الاضطراب حتما، وإنما يقع التناقض والتضارب إذا تعادلت الروايات وتساوت وتعذر الترجيح بينها كما ذكر نقاد الحديث في مصطلحهم العلمي الدقيق٤، فأما إذا رجحت رواية على أخرى فما من فرصة بعد للقول بالتناقض، ولينقل المؤرخون عشرات الروايات في عمر النبي٥ فسيظل الرأي الأشهر هو الرأي الأصح كما رجحه المحققون من أهل التفسير٦.
وجهل المسشرقين أو تجاهلهم يتمثل في حيرتهم الحقيقية أو المصطنعة لدى تحديد الرقم السحري المليء بالأسرار عند العرب والساميين، فهو الأربعون تارة، والسبعة أو السبعون تارة أخرى١، وقد فاتهم أن المبالغة في بعض الأرقام -وإن تك في ذاتها حقيقة واقعة- لا تلغي المفهوم العددي في الأحوال كافة، ولا تلازم بين الأمرين حين تنتصر لمفهوم عددي معين أوثق الروايات، أصدق وقائع التاريخ.
لا مفر إذن من مجابهة أولئك المستشرقين، مغالطيهم ومتجاهليهم، بأن الله بعث نبيه حقا على رأس الأربعين، من غير استناد إلى تفسير "العمر" في الآية، ومن غير تأثر بعقائد الساميين في هذا الرقم العجيب، بل اعتمادا على ما نطقت به الروايات الصحيحة المشهورة التي كادت تبلغ حد التواتر، إذ استفاضت بين الخاصة والعامة، وتناقلتها الألسنة القديمة والحديثة.
وما من ريب في أن إثارة الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي محاولة أولية للتشكيك في منطلق الدعوة الإسلامية بمكة تتلوها محاولات أخرى للغض من قيمة المعلومات المأثورة المتعلقة بمراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة، فأنى للباحث أن يتصور كيف كانت تتتابع نوازل القرآن إذا كانت صورة بدء الوحي قد انطبعت في ذهنه غامضة لا تحكي الأصل في شيء؟
وإن في وسعنا الآن -وقد أزحنا عن الظروف الأولى لبدء الوحي كل لبس أو غموض، وفصلنا القول في سن الرسول - ﷺ - قبيل البعثة- أن نتدرج مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة، مطمئنين إلى ما وافانا به أئمتنا المحققون في وصف تلك المراحل ابتداء ووسطا وختاما، مثلما اطمأننا -فيما سبق من فصول هذا الكتاب- إلى ما وافونا به في تحليل ظاهرة الوحي نفسها، وفي تقصي النوازل القرآنية المنجمة على حسب


الصفحة التالية
Icon