واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه، ثم تربيته في قصر فرعون، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا، فقتل قبطيا قتلا خطأ، فهرب من مصر إلى أرض مدين، فتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين، ثم عاد إلى مصر، فناجى ربه في الطور، وأيده اللّه بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد، فبلغ رسالة ربه، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا، فأغرقهم اللّه في البحر. وذلك شبيه بإنكار قريش نبوة الرسول محمد - ﷺ - مع ما جاءهم به من الحق، فوصفوه بالسحر المفترى، وتنكروا للإيمان برسالته بأعذار واهية، فأنذرهم القرآن بعذاب مماثل لقوم فرعون، وأبان لهم أن اللّه لا يعذب قوما إلا بعد إرسال رسول إليهم، وأن الرسول باختيار اللّه تعالى لا بحسب أهواء المشركين، وأن آلهتهم المزعومة ستتبرأ من عبادتهم يوم القيامة، وأن اللّه هو الإله الواحد الذي لا شريك له، وأنه القادر على بعث الأموات، كما قدر على بدء الخلق، وإيجاد تعاقب الليل والنهار. وسيشهد الأنبياء على أممهم بتبليغ رسالات ربهم، وقد آمن جماعة من أهل الكتاب، وسيعطون أجرهم مرتين، وأن الهداية بيد اللّه تعالى، لا بيد رسوله، فلن يتمكن من هداية من أحب.
وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين.
وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد - ﷺ - لأنه لم يكن حاضرا معهم، ولم يتعلم ذلك من معلم.
وختمت القصتان بإعلان مبادئ :
أولها - أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وثانيها - أن الإيمان باللّه وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد، وتحقيق النصر لرسول اللّه - ﷺ - على أعدائه، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.
وثالثها - بيان نهاية العالم كله وهي الهلاك الشامل، وانفراد اللّه تعالى بالبقاء والدوام، والحكم والحساب، ورجوع البشر كافة إليه : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ونحوها : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٥ - ٢٦]. (١)
هذه السورة مكية على الأصح، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين : أن النصر من عند اللّه، وأن الأمن في جوار اللّه، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من

(١) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (٢٠ / ٥١) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٢٠ / ٣٠)


الصفحة التالية
Icon