ثم تجىء بعد هذا سورة « الروم » هذه، فتعرض مشهدا من الواقع، ونخبر عن حدث مشهود، يراه المسلمون والمشركون، يومئذ، وهو تلك الحرب التي وقعت بين الروم والفرس، والتي انتصر فيها الفرس، وهم عبدة أوثان، على الروم وهم أهل كتاب، كان ذلك، والحرب على أشدّها بين المشركين والمسلمين فى مكة، وقد كانت الدولة للمشركين، حيث كانوا هم الكثرة، وأصحاب القوة والجاه، على حين كان المسلمون قلّة قليلة، أغلبها من المستضعفين، من الإماء والعبيد، وكان أقوى المسلمين قوة، وأعزّهم نفرا، من يستطيع أن يفلت من يد القوم، ويخرج فارّا بدينه، تاركا كل شىء وراءه!!
فى هذا الوقت جاءت الأنباء إلى أهل مكة تحدّث بتلك الحرب الدائرة بين الفرس والروم، وبأن الغلبة كانت للفرس، وكان لذلك فرحة فى نفوس المشركين، لم يستطيعوا أن يمسكوا بها فى كيانهم، بل انطلقوا يردّدونها فيما بينهم، ويديرون أحاديثها على أسماع المسلمين، استهزاء وسخرية وشماتة، إذ كان المسلمون يمثلون الروم، الذين يؤمنون بكتاب سماوى، على حين كان المشركون يمثلون الفرس، عبدة النار.. وأما وقد غلب عبدة النار أهل الكتاب، فإن عبدة الأصنام المشركين ستكون لهم الغلبة دائما على الذين اتبعوا محمدا، وآمنوا بالكتاب الذي معه، وأن ما يعدهم به الكتاب الذي فى أيديهم من نصر وعزّة، ليس إلا خداعا ووهما كاذبا، وأن فيما وقع بين الفرس والروم، وما كان من انتصار الفرس على الروم لهو شاهد بيّن، لا تدفع شهادته... وإذن فإن ما يدّعى بأنه كتب سماوية من عند اللّه ـ قديما وحديثا ـ هو مجرد كذب وافتراء.. إذ لو كانت هذه الكتب من عند اللّه لما خذل أتباعها أبدا... وإلا فأين اللّه وقد خذل أتباع كتبه ؟ هكذا كان تفكير المشركين وتقديرهم.
وقد وجد المسلمون فى أنفسهم شيئا من الأسى لتلك الهزيمة التي حلّت بالروم، ثم ضاعف ذلك الأسى، وزاد فى مرارته ما كان يلقاهم به المشركون من كلمات ساخرة، ونظرات شامتة.. ذلك والمسلمون قد كانت تنزف جراحاتهم دما، من طعنات المشركين لهم، فى أجسامهم، ومشاعرهم... على السواء.
وفى كل موقف يشتد فيه البلاء على المؤمنين، وتضيق فيه عليهم الأرض بما رحبت، تطلع عليهم آية من آيات اللّه، فتمسك بسفينتهم المضطربة، وتنتزعها من يد العاصفة المجنونة المشتملة عليها، وإذا الأمن والسلامة يحفّان بهم، وإذا هم وقد ظفروا، وغنموا، وانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل، لم يمسسهم سوء!!
ومن هذه الآيات الأولى التي تنزلت بها سورة « الرّوم » وجد المسلمون ربح رحمة اللّه، فى هذا الوعد الكريم، وفى تلك البشرى المسعدة التي ساقنها إليهم بين يديها.
وحفّا قد غلبت الرّوم فى هذه المعركة، وليس بالمستبعد أن يغلب المؤمنون فى معركة أو أكثر من معاركهم مع المشركين، ولكن العاقبة أبدا للمؤمنين.. ولقد غلبت الروم فى هذه المعركة، ولكن الصراع لم ينته بعد.