ونقل الداني عن عطاء، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين، وقيل : هي مكية إلّا آية وهي قوله تعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [لقمان : ٤] فإن إيجابهما بالمدينة، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة، وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما، وايها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين.
وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم : ٥٨] وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الروم : ٥٨] وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان : ٧] وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح - بألم إن قوله تعالى : هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان : ٤٣] متعلق بقوله تعالى فيما قبل : وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم : ٥٦] الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق.
وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم : ١٥] وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان : ٦] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي ا ه.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك، وأقول في الاتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : ٢٧] وهنا قوله سبحانه : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : ٢٨] وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عزّ وجلّ قائلا : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم : ٣٣] وقال عزّ وجلّ هنا : وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان : ٣٢] فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك.
وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب