للمتقين، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، ثن ابتدأ سورة يونس بعد سورة عزو الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى أن ختم سورة الروم، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات. (١)
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول.. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح.. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيما مع العقيدة، مستقيما مع الفطرة، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير..
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها..
هذه القضية الواحدة - قضية العقيدة - تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل اللّه والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى اللّه في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره، أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره.. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم.