ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة (١) مواضع من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها. وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها. وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم. ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا. والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به. والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان. والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر. والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول. وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة. والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله. وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل. والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله - ﷺ - فالله غني عن عبادتهم، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا. وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت. وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها. وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين. وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر. وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد، وأمثال، وترهيب وترغيب، ووعظ وإيماء بقوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل. (٢)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « ص » بما بدئت به، من تنويه بشأن القرآن الكريم، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس، على مختلف منازلهم، من أنبياء أخلصهم اللّه بخالصة النبوّة، وأنبياء جمع اللّه لهم بين النبوة والملك، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة، وكافرين، ضلّوا عن سواء السبيل، فكفروا باللّه.. وهنا تبدأ سورة « الزمر » بذكر القرآن الكريم، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه

(١) - هي قوله تنزيل ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ﴾ الآيتين وقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ الآيتين، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ الآية، وقوله: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ الآية.
(٢) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (٢٤ / ٥)


الصفحة التالية
Icon