أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ١١٩
في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول اللّه جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال صلّى اللّه عليه وسلم من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه
فهذا القول منه صلّى اللّه عليه وسلم ينفى كون السعى بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما أخباره بتمام حجته وليس فيه السعى بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضى ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روى عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب اللّه لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعنى أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلم فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى
أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال (خذوا عنى مناسككم)
وذلك أمر يقتضى إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعى بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبى موسى قال قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينها
وهذا أمر يقتضى الإيجاب وقد روى فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو
ما رواه معمر عن واصل مولى أبى عيينة عن موسى ابن أبى عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم بين الصفا والمروة (يقول كتب عليكم السعى فاسعوا)
فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبى رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبى تجزءة قالت دخلت دار أبى حسين ومعى نسوة من قريش والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه (اسعوا فإن اللّه تعالى قد كتب عليكم السعى)