أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ٣٥
البقرة بذكر المؤمنين ووصفهم ثم ذكر الكافرين وصفتهم ثم ذكر المنافقين ونعتهم وتقريب أمرهم إلى قلوبنا بالمثل الذي ضربه بالذي استوقد نارا وبالبرق الذي يضيء في الظلمات من غير بقاء ولا ثبات وجعل ذلك مثلا لإظهارهم الإيمان وإن الأصل الذي يرجعون إليه وهم ثابتون عليه هو الكفر كظلمة الليل والمطر اللذين يعرض في خلالهما برق يضيء لهم ثم يذهب فيبقون في ظلمات لا يبصرون ثم ابتدأ بعد انقضاء ذكر هؤلاء بإقامة الدلالة على التوحيد بما لا يمكن أحد دفعه من بسطه الأرض وجعلها قرارا ينتفعون بها وجعل معايشهم وسائر منافعهم وأقواتهم منها وأقامتها على غير سند إذ لا بد أن يكون لها نهاية لما ثبت من حدوثها وأن ممسكها ومقيمها كذلك هو اللّه خالقها وخالقكم المنعم عليكم بما جعل لكم فيها من أقواتكم وسائر ما أخرج من ثمارها لكم إذ لا يجوز أن يقدر على مثل ذلك إلا القادر الذي لا يعجزه ولا يشبهه شيء فحثهم على الاستدلال بدلائله ونبههم على نعمه ثم عقب ذلك بالدلالة على نبوة النبي عليه السلام بما أظهر من عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن ودعاهم في ذلك كله إلى عبادة اللّه تعالى وحده المنعم علينا بهذه النعم فقال [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] يعنى واللّه أعلم تعلمون أن ما تدعونه آلهة لا تقدر على شيء من ذلك وأن اللّه هو المنعم عليكم به دونها وهو الخالق لها وقيل في معنى قوله [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] أنكم تعلمون الفصل بين الواجب وغير الواجب ويكون معناه أن اللّه تعالى قد جعل لكم من العقل ما يمكنكم به الوصول
إلى معرفة ذلك فوجب تكليفكم ذلك إذ غير جائز في العقل إباحة الجهل باللّه تعالى مع إزاحة العلة والتمكن من المعرفة فلما قرر جميع ذلك عندهم بدلائله الدالة عليه عقد عليه بذكر الوعيد بقوله [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ]
ثم عقب بذكر ما وعد المؤمنين في الآخرة بقوله [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] إلى آخر ما ذكر قال أبو بكر رحمه اللّه وقد تضمنت هذه الآيات مع ما ذكرنا من التنبيه على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائلها وذلك مبطل لمذهب من نفى الاستدلال بدلائل اللّه تعالى واقتصر على الخبر بزعمه في معرفة اللّه والعلم بصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأن اللّه تعالى لم يقتصر فيما دعا الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله


الصفحة التالية
Icon