أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ٣٨٥
صلّى اللّه عليه وسلم قال (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)
وهذا موافق لدلالة الآية وذلك لأن اللّه تعالى لما نهى عن المعاصي والفسوق في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها لأن الإصرار على ذلك هو من الفسوق والمعاصي فأراد اللّه تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقوله تعالى [وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ] قد تضمن النهى عن مماراة صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر الجاهلية لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل الجاهلية عليه وهو معنى
قوله صلّى اللّه عليه وسلم ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض
يعنى عود الحج إلى الوقت الذي جعله اللّه له واتفق ذلك في حجة النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقوله [فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ] وإن كان ظاهره الخبر فهو نهى عن هذه الأفعال وعبر بلفظ النفي عنها لأن المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر [وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ويَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ ] وما جرى مجراه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر قوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ] روى عن مجاهد والشعبي أن أناسا من أهل اليمن كانوا لا يتزودون في حجهم حتى نزلت [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ] وقال سعيد بن جبير الزاد الكعك والزيت وقيل فيه إن قوما كانوا يرمون بأزوادهم يتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تطرحوا كلكم على الناس وقيل فيه أن معناه أن تزودوا من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى قال أبو بكر لما احتملت الآية الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى وجب أن يكون عليهما إذ لم تقم دلالة على تخصيص زاد من زاد وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه كما نص على حظر الفسوق والمعاصي فيه وإن كانت محظورة في غيره تعظيما لحرمة الإحرام وأخبارا أنها فيه أعظم مأثما فجمع الزادين في مجموع اللفظ من الطعام ومن زاد التقوى ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه وهذا يدل على بطلان مذهب المتوصفة الذين يتسمون بالمتوكلة في تركهم التزود والسعى في المعاش وهو يدل على أن من شرط استطاعة الحج الزاد والراحلة لأنه خاطب بذلك من خاطبه بالحج وعلى هذا المعنى
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم حين سئل عن الاستطاعة فقال هي الزاد والراحلة
واللّه الموفق.