أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ٣٨٨
الكتاب تماما على الذي أحسن ويجوز أن يكون ثم بمعنى الواو فيكون تقديره وأفيضوا من حيث أفاض الناس كما قال تعالى [ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] معناه وكان من الذين آمنوا وقوله [ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ] معناه واللّه شهيد فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روى عن السلف ما ذكرنا لم يجز العدول عنه إلى غيره وأما قولك أن ذكر عرفات
قد تقدم في قوله [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ] فلا يكون
لقوله [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ] وجه فليس كذلك لأن قوله [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ] لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف وقوله [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ] هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ] إذ لا دلالة في قوله [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ] على فرض الوقوف ومع ذلك فلو اقتصر على قوله [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ] لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات فأبطل ظن الظان لذلك بقوله [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ] واتفقت الأمة مع ذلك على
أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ونقلته عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قولا وعملا
وروى بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كيف الحج قال (الحج يوم عرفة من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح أو يوم جمع فقد تم حجه)
وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال بالمزدلفة (من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه)
وقد روى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجابر إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء فيمن لم يقف بعرفة ليلا فقال سائرهم إذا وقف نهارا فقد تم حجه وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام وقال مالك بن أنس إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار وأن الوقوف نهارا غير مفروض إنما هو مسنون وروى عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه والدليل على صحة القول الأول
قوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث عروة ابن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة


الصفحة التالية
Icon