أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ٨٦
الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ]
يعنى أقدم إليكم الأمر به وقال تعالى [الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا] ومنه عهد الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إنما هو ما يتقدم به إليهم ليحملوا الناس عليه ويحكموا به فيهم وذلك لأن عهد اللّه إذا كان إنما هو أوامره لم يخل قوله [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر اللّه تعالى وأحكامه ولا يؤمنون عليها فلما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر اللّه تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم وأنهم إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر اللّه ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر اللّه تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته وكذلك
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولى الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولا فتياه إذا كان مفتيا وأنه لا يقدم للصلاة وإن كان لو قدم واقتدى به مقتد كانت صلاته ماضية فقد حوى قوله [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] هذه المعاني كلها ومن الناس من يظن أن مذهب أبى حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته وأنه يفرق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه وذكر ذلك عن بعض المتكلمين وهو المسمى زرقان وقد كذب في ذلك وقال بالباطل وليس هو أيضا ممن تقبل حكايته ولا فرق عند أبى حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعى ذلك على أبى حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بنى أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا فلما خيف عليه قال له الفقهاء فتول شيئا من أعماله أى شيء كان حتى يزول عنك هذا الضرب فتولى له عد أحمال التبن الذي يدخل فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك فأبى فحبسه حتى عدله اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة بغداد وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور ولذلك قال الأوزاعى احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعنى قتال الظلمة فلم نحتمله وكان من


الصفحة التالية
Icon