أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٢، ص : ٢٨٥
بالمحكم قيل له إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها فما كان كذلك فهو المحكم الذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها فإن قيل كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه دون ما أحكم قيل له نحو ما
روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المسيح فقالوا أليس هو كلمة اللّه وروح منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل اللّه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ
ثم أنزل اللّه تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فصرفوا قوله كلمة اللّه إلى ما يقولونه في قدمه مع اللّه وروحه صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الإنسان وإنما أراد اللّه تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الأنبياء المتقدمين فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به وسماه روحه لأن اللّه تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السّلام فنفخ في جيب مريم عليها السّلام وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له كبيت اللّه وسماء اللّه وأرضه ونحو ذلك وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وإنما سماه روحا من حيث كان فيه حياة الناس في أمور دينهم فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال وقال قتادة أهل الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية
قوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ
روى عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق أنه لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الانتقام فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال لئن حاربتنا لتعرفن أنا الناس فأنزل اللّه تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ
وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما فيها من الأخبار عن غلبة المؤمنين المشركين فكان على ما أخبر به ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خلف وذلك لا يكون إلا من عند اللّه تعالى العالم بالغيوب إذ ليس في وسع أحد من


الصفحة التالية
Icon