أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٢، ص : ٣١٩
واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله وروى عن عكرمة أن ابن عباس قال له قد أعيانى أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له أنا أعرفك ذلك اقرأ الآية الثانية قوله تعالى أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ قال فقال لي أصبت وكساني حلة فاستدل ابن عباس بذلك على أن اللّه أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم وقد نسب اللّه تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم بقوله قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ وبقوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين فكذلك ألحق اللّه تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه بل هو ممن قال اللّه تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي وقال حدثنا الحماني قال سمعت ابن المبارك يقول لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا
أنه سيموت فخلوت به فقال كان واللّه رجلا عاقلا ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت وكيف كان سببه قال كان يقدم ويسألنى وكان شديد البذل لنفسه في طاعة اللّه وكان شديد الورع وكنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألنى عنه ولا يرضاه ولا يذوقه وربما رضيه فأكله فسألنى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من اللّه تعالى فقال لي مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت ولم قال دعاني إلى حق من حقوق اللّه فامتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعوانا صالحين ورجلا يرأس عليهم مأمونا على دين اللّه لا يحول قال وكان يقتضى ذلك كلما قدم على تقاضى الغريم الملح كلما قدم على تقاضانى فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده


الصفحة التالية
Icon