أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٢، ص : ٣٢٧
وأن لا يبرحوا فعصوا وخلوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين وظنوا أنه لم يبق لهم باقية واختلفوا وتنازعوا فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعصيانهم
وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم وجدوا موعود اللّه كما وعد قبل العصيان فلما عصوا وكلوا إلى أنفسهم وفيه دليل على أن النصر من اللّه في جهاد العدو مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته وعلى هذا جرت عادة اللّه تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ولذلك قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الإخلال بمراكزهم التي رتبوا فيها وقال تعالى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وإنما أتوا من قبل من كان يريد الدنيا منهم قال عبد اللّه بن مسعود ما ظننت أن أحدا ممن قاتل مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يريد الدنيا حتى أنزل اللّه تعالى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وعلى هذا المعنى كان اللّه قد فرض على العشرين أن لا يفروا من مائتين بقوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخلصين لنية الجهاد للّه تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا رجالة قليلي العدة والسلاح وعدوهم ألف فرسان ورجالة بالسلاح الشاك فمنحهم اللّه أكتافهم ونصرهم عليهم حتى قتلوا كيف شاءوا وأسروا كيف شاءوا ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفف اللّه تعالى عن الجميع فقال الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوفر وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف هاهنا ضعف النية وأجرى الجميع مجرى واحدا في التخفيف إذا لم يكن من المصلحة تمييز ذوى البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة ولذلك قال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في يوم القيامة حين انهزم الناس أخلصونا أخلصونا يعنون المهاجرين والأنصار
قوله