أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٣، ص : ٢٩٠
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ويحتمل أن يريد بقوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها فإن قيل قوله تعالى إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يقتضى تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها قوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدى
إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ويجعله بمنزلة قوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلا محلى الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من