أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٣، ص : ٢٩٣
بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدى قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدى يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بحلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا
وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدى ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ قد تضمن ذلك كله وقد ذكر اللّه القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ فلو لا ما تعلق بالهدى والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي للّه تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ- فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ الآية نسختها وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدى لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى وَلَا الْقَلائِدَ قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر اللّه انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ اللّه منها ما شاء فنهى اللّه عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن اللّه قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر اللّه
بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدى ثابتا وقد حدثنا عبد اللّه بن


الصفحة التالية
Icon