أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٥، ص : ١٢٢
إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر كذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء في الآية لا فرق بينهما فإن قيل قال اللّه تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا- إلى قوله- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ثم قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمر وقوله ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا خبر فرجع الاستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر قيل له إنما جاز ذلك لأن قوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الاستثناء إلى الجميع ولما كان قوله تعالى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر وجب أن لا يرجع إلى الجميع ومع ذلك فإنا نقول متى اختلف صيغ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة فإن قامت الدلالة جاز رده إليه وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مبقى على حكمه في الأصل فإن قيل لما كانت الواو للجمع ثم قال فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر إذ لم يكن تقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا فليس رجوع الاستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد ولو لا
قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة وقيل له إن الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف وهي في قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ للاستئناف لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا وذلك في نحو قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلى آخر الآية لأن الجميع أمر كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر ولا يجوز أن ينتظمهما جملة واحدة فلذلك كانت الواو للاستئناف إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر وقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ


الصفحة التالية
Icon