أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٥، ص : ٢٣ بها فلو أصابته لعقرته فقال يأتينى أحدهم بجميع ما يملك ثم يقعد يتكفف الناس
وروى أن رجلا دخل المسجد وعليه هيئة رثة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر فأمر الرجل بأن يقوم فقام فطرح الناس ثيابا للصدقة فأعطاه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منها ثوبين ثم حث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الناس على الصدقة فطرح أحد ثوبيه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم انظروا إلى هذا أمرته أن يقوم ليفطن له فيتصدق عليه فأعطيته ثوبين ثم قد طرح أحدهما ثم قال له خذ ثوبك
فإنما منع أمثال هؤلاء من إخراج جميع أموالهم فأما أهل البصائر فلم يكن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يمنعهم من ذلك وقد كان أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه ذا مال كثير فأنفق جميع ماله على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي سبيل اللّه حتى بقي في عباءة فلم يعنفه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم ينكر ذلك عليه والدليل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما خوطب به غيره قوله تعالى فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ولم يكن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ممن يتحسر على إنفاق ما حوته يده في سبيل اللّه فثبت أن المراد غير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو نحو قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد غيره وقوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ لم يرد به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لم يشك قط فاقتضت هذه الآيات من قوله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الأمر بتوحيد اللّه والإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما وطاعتهما وإعطاء ذي القربى حقه والمساكين وابن السبيل حقوقهم والنهى عن تبذير المال وإنفاقه في معصية اللّه والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهى عن الإفراط والتقصير في الإعطاء والمنع وتعليم ما يجيب به السائل والمسكين عند تعذر ما يعطى
قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ هو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه وذلك لأن من العرب من كان يقتل بناته خشية الفقر لئلا يحتاج إلى النفقة عليهن وليوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته وكان ذلك مستفيضا شائعا فيهم وهي الموءودة التي ذكرها اللّه في قوله وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ والموءودة هي المدفونة حيا وكانوا يدفنون بناتهم أحياء وقال عبد اللّه بن مسعود سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقيل ما أعظم الذنوب قال أن تجعل للّه ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك وأن تزنى بحليلة جارك
قوله تعالى نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فيه إخبار بأن رزق الجميع على اللّه تعالى واللّه سيسبب لهم ما ينفقون على الأولاد وعلى أنفسهم وفيه بيان أن اللّه تعالى سيرزق كل حيوان خلقه مادامت حياته باقية وأنه إنما يقطع رزقه بالموت وبين اللّه تعالى


الصفحة التالية
Icon